فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

فإن قيل: كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التمّلك؟ قيل له: لأنها معدّة لأن تملك ويصح بها الانتفاع؛ فهي رزق.
ودلّت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق؛ ولهذا قال عليه السلام مشيرًا إلى هذا المعنى: «والله لأنْ يأخُذَ أحَدُكُم حَبْلَه فَيَحْتطِبَ على ظَهْرِهِ خَيْرٌ له من أن يَسْأَلَ أحَدًا أعطَاهُ أو مَنَعَهُ» أخرجه مسلم.
ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها؛ فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زُخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله نِدًّا.
وقال علماء الصوفية: أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر؛ وهو أن تجعل الأرض وِطاءً والسماء غِطاءً، والماء طيبًا والكلأ طعامًا؛ ولا تعبد أحدًا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لابد لك منه، من غير مِنَةٍ فيه لأحد عليك.
وقال نَوْف البِكَاليّ: رأيت عليّ بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال: يا نَوْف، أراقِد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، قال: طُوبَى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة؛ أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطًا، وتُرابها فِراشًا، وماءها طِيبًا، والقرآن والدعاء دِثارًا وشِعارًا؛ فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام.
وذكر باقي الخبر، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} [البقرة: 186] إن شاء الله تعالى. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الألوسي:

{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الماء معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو همزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويهًا بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، و{مِنْ} الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد، فرزقًا حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له لأخرج و{لَكُمْ} ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئًا {مِنَ الثمرات} أي بعضها لأجل أنه رزقكم.
وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول {أخرج} و{رزقًا} بمعنى مرزوقًا حالًا من المفعول أو نصبًا على المصدر لأخرج، وإما للتبيين فرزق بمعنى مرزوق مفعول لأخرج و{لَكُمْ} صفته، وقد كان {مِنَ الثمرات} صفته أيضًا إلا أنه لما قدم صار حالًا على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر تعسف لا ثمرة فيه، وأل في {الثمرات} إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، و{من} زائدة ليس بشيء لأن زيادة {من} في الإيجاب وقبل معرفة مما لم يقبل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضًا أن يكون جميع الثمرات التي أخرجت رزقًا لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقًا وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنه فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك: أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع {من الثمرة} أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات} [الدخان: 5 2] و{ثلاثة قُرُوء} [البقرة: 8 22] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل: بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك والمقام يخصصه بها اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من {به} للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلًا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لابها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا: ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلًا فهو فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال: إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول: إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله تعالى شأنه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطًا بالأسباب قائمًا بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويالله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببًا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قد يوجب فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي بتأويل القول خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل: الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جعل لكم ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك: فلا تجعلوا الخ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو صيرت الحديد سيفًا، ومنه ما تقدم على وجه يكون بالقول والعقد. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} عطفٌ على جعل أي أنزل من جهتها، أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، كما رُوي ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المرادُ بالسماء جهةُ العلو كما ينبئ عنه الإظهارُ في موضع الإضمار، وهو على الأولين لزيادة التقرير، و{من} لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوفٍ وقع حالًا من المفعول أي كائنًا من السماء، قُدِّم عليه لكونه نكرةً، وأما تقديمُ الظرفِ على الوجه الأول مع أن حقه التأخيرُ عن المفعول الصريح فإما لأن السماءَ أصلُه ومبدؤه، وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظامٍ بينه وبين قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ} أي بسبب الماء {مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ}.
وذلك بأن أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلة وفي الأرض قوةً منفعلة، فتولَّد من تفاعُلِهما أصنافُ الثمار، أو بأن أجرى عادتَه بإفاضة صورِ الثمار وكيفيتها المخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثرَ في الحقيقة قدرتُه تعالى ومشيئتُه، فإنه تعالى قادر على أن يوجِدَ جميعَ الأشياء بلا مباد وموادَّ كما أبدع نفوسَ المبادئ والأسباب، لكن له عز وجل في إنشائها متقلبةً في الأحوال، ومتبدلةً في الأطوار من بدائعَ حِكَمٌ باهرةٌ تُجَدِّدُ لأولي الأبصار عِبرًا ومزيدَ طُمَأنينة إلى عظيم قدرتِه ولطيفِ حكمتِه ما ليس في إبداعها بغتة، و{من} للتبعيض لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} ولوقوعها بين مُنكَّرين، أعني ماءً ورزقًا كأنه قيل: وأنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم، وهكذا الواقعُ إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء، ولا أخرج من الأرض كل الثمرات، ولا جعل كلَّ المرزوق ثمارًا، أو للتبيين، ورزقًا مفعول بمعنى المرزوق، ومن الثمرات بيانٌ له، أو حال منه كقولك: أنفقت من الدراهم ألفًا، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولًا ورزقًا حالًا منه أو مصدرًا من أخرج، لأنه بمعنى رزق.
وإنما شاع ورودُ الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضعُ كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة في قولك: أدركتْ ثمرةُ بستانه، ويؤيده القراءة على التوحيد، أو لأن الجموعَ يقعُ بعضها موقعَ بعض، كقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ} وقوله تعالى: {ثلاثة قُرُوء} أو لأنها مُحلاة باللام خارجةٌ عن حد القِلة، واللامُ متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرزقا على تقدير كونه بمعنى المرزوق، أي رزقًا كائنًا لكم، أو دِعامةً لتقوية عمل رزقًا على تقدير كونِه مصدرًا، كأنه قيل: رزقًا إياكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به} الخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا.
واعلم أن كون الماء نازلًا من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلئ دائمًا بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغًا بعد أيام إذا ترك مكشوفًا للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع، فيصير سحابًا ثم يمكث قليلًا أو كثيرًا بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطرًا وهو ما أشار له قوله تعالى: {وينشئ السحاب الثقال} [الرعد: 12] وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعًا وربما كان السحاب قليلًا فساقت إليه الريح سحابًا آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطرًا، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث: «إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غُدَيقة» ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعًا وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر.
و{من} التي في قوله: {من الثمرات} ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسبًا لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقوله تعالى: {والسماء بناء} هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد} شبهت بالقبة المبنية على الأرض، ويقال لسقف البيت بناء، والسماء للأرض كالسقف، روي هذا عن ابن عباس وجماعة.
وقيل: سماها بناء، لأن سماء البيت يجوز أن يكون بناء غير بناء، كالخيام والمضارب والقباب، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته، فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأ إلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباق بعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها، وهي مع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقات وأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} وقيل: سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض.
وأنزل من السماء: يجوز أن يراد به السحاب، ويجوز أن يراد به السماء المعروفة.
فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول، وعلى الثاني فحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو تأخر لكان نعتًا فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر.
ماء لأن المنزل لم يكن عامًا فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم.
فأخرج به: والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية.
فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشئ الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقيّ.
ولله تعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيمًا للباري.
من الثمرات: من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو: {كم تركوا من جنات} و{ثلاثة قروء} فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله:
لنا الجفنات الغر يل معن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش.
والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمرات التي أخرجها رزقًا لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئًا لا يمكن أن يكون رزقًا لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار رزقًا لنا وبعضها لا يكون رزقًا لنا، وهو الواقع.
وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذا رزقًا منصوبًا على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولًا من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقًا بأخرج، ويكون رزقًا مفعولًا بأخرج.
وقرأ ابن السميفع: من الثمرة على التوحيد، يريد به الجمع كقولهم: فلان أدركت ثمرة بستانه، يريدون ثماره.
وقولهم: للقصيدة كلمة، وللقرية مدرة، لا يريدون بذلك الإفراد.
ولكم: إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولًا به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديبًا له، أي تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائنًا لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقًا بأخرج، أي فأخرج لكم به من الثمرات رزقًا.
وانتهى عند قوله: {رزقًا لكم} ذكر خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس خلقهم وخلق من قبلهم، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشًا وكون السماء بناءً، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنه أقرب إلى معرفته، وثنّى بخلق الآباء، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات، لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر.
وقيل: قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميع النعم.
وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل. اهـ.